رجــــل مــن العامـة خرج ليحكم الأندلس
[center]
تحت ظل شجرة كبيرة جلس .. محمد .. هو وأصحابه
يستريحون من عناء يوم شاق لم يبيعوا فيه ما يؤهلهم لشراء ما يُسكتون
به صراخ الجوع في بطونهم ....
نظر (محمد) إلى المدينة أمامه مفكراً: إذن هذه هي المدينة التي كان
القدوم إليها في حد ذاته حلما ! ماذا قَدَّمت لي ؟ عامٌ مضى وأنا أدور
على الحانات حاملاً بضاعتي التي لا يشتريها إلا الغافل من الناس ، ثم
آوي آخر الليل إلى نزل متهالك لأنام فيه مع القلق الذي أحتضنه كل ليلة
خوفاً من المطالبة بالأجرة التي لم أدفعها منذ ستة أشهر... يا الله ما
هذه الطاحونة التي تطحن البشر دون رحمة أو شفقة ،
لقد كنت أحمق
حين ظننت أن ذلك الوزير الذي كان صاحباً لأبي سوف يُقدم لي عملاً
كريماً يفي به حق صاحبه ، ولكنه لم يزد على أن أضاع عليّ صدر النهار
في انتظاره ثم قابلني مقابلة المتعجل الملول ، فلما عرف نسبي رحب
بي ترحيب المتناسي المتغافل ، ثم أخرج صرة من النقود وأعطاها لي
كأنني جئت أطلب الإحسان أو الصدقة !
نب أصحابه من سَبَحَاتِه بعد أن أجهدهم الجوع : ماذا ستفعل يا محمد ؟
رد بهدوء : سأحكم هذه المدينة .. واستدرك قائلا : لا، بل يوماً ما سأحكم
هذه الدولة .... وضجت الربوة بالضحك .
بعد عشرة أعوام كان هذا الفتى الطموح يحاصر بجيشه العظيم أقدس
مدينة لنصارى إسبانيا (شانت ياقب) أو (سانتياجو) كما يسميها
الأوربيون، ويجبر أهلها على الخضوع له ، وتسليمه مفاتيحها
، ثم يعود
إلى قرطبة مكللاً بتيجان النصر والعزة .
وتستقبله قرطبة بأفراحها وراياتها الخفاقة ، وأهازيج أهلها .
لكن امرأة
عجوز تخترق صفوف الجنود وتصرخ فيه : أيها الملك المنتصر أترضى أن
يُقام عرس في كل بيت وفي بيتي مأتم .. والله ما صنعت شيئاً، وإني
لشاكيتك إلى الله أن تركت ابني خلفك أسيراً وهو من رعيتك .
نظر
الملك إلى المرأة العجوز ثم إلى مشارف قصره الذي صار على مرمى
حجر منه ، وأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وقال : لبيك يا أَمَةَ الله .
ولوى
عنان فرسه خارجاً من قرطبة ليقطع في طريق عودته الأميال الألف
التي قطعها عائداً بالنصر، ضارباً عرض الحائط برجاء قادة جيشه أن
يستريح ويترك أمر الأسير لهم .
وتهتز الأندلس كلها لهذا الخبر وتَجِدُّ ملوك (قشتالة وليون ونافار) في
البحث عن هذا الأسير المسلم ليقدموه هدية استرضاء ودليل خضوع ،
لهذا القائد العظيم الذي يتسلم الأسير المسلم معززاً مكرماً ليقطع الألف
ميل مرة أخرى ويدخل قرطبة ويأتي بالعجوز فيسلمها ولدها .
هذا هو (محمد) الذي جلس بالأمس على ربوة عالية خارج قرطبة يفكر
في حاله وحال أصحابه ،
أصبح اسمه اليوم
( الملك المنصور محمد بن أبي عامر )
لقد أدرك الفتى وهو على تلك الربوة أن قدراته تؤهله لمكانة أعلى
ومنزلة أسمى ، ورأى في نفسه ما لم يره في غيره ،
ونظر إلى أعلام
زمانه فاكتشف أنه لا يقل عنهم فهماً وعقلاً وأنه سُبِق منهم بالعلم
والجد وتحصيل أسباب الرفعة ، فرمى ـ في لحظة إشراق ـ بضاعته إلى
أصحابه وهبط إلى قرطبة غير ملتفت إلى السخرية التي لاحقته منهم .
وكانت جامعة قرطبة أول درجة من درجات مجده فالتحق بها ، وغمس
نفسه في بيئة العلم ، وتتلمذ على أساطين زمانه في كل فن ؛ فدرس
الأدب على يد أبي علي القالي ، وقرأ الفقه على يد أبي بكر بن القوطية
والحديث على يد أبي بكر بن معاوية القرشي ، فحقق نبوغاً بين أقرانه
حتى فاقهم جميعاً ، وأصبح مضرب المثل في الذكاء والفطنة ، وحاز
إعجاب أساتذته ومعلميه....
فرشحه أحدهم للعمل كاتباً عند أحد القضاة،
ثم استقل بعمل الكتابة فافتتح (دكاناً ) صغيراً بجوار بوابة القصر ليكتب
للناس العرائض والمظالم فَأُعجِب أحد الوزراء بأسلوبه في الكتابة وقدَّر
فيه النبوغ والطموح فرشحه للعمل مديراً لمكتب ولي العهد الصغير
(هشام المؤيد) الذي وُلد (للحكم المستنصر) الكهل على كِبَر .
ثم ترقى
في سلم الوظائف حتى صار أميناً لخزينة القصر،
ثم متصرفاً في شؤون
السلطان إلى أن مات (الحكم)
فأصبح قَيِّما على ولي العهد الصغير.
وهو
في كل هذا ينظر إلى مواضع أقدامه ،
ويقدر للخطو قبل أن يخطو ؛
فيجامل هذا ويهادي ذاك ،
وينصف مظلوماً ،
ويتقي ظالماً ،
ويؤخر نفسه
في موضع التقديم حتى يكون المطلوب لا الطالب ،
ويعرف لأهل الفضل
فضلهم ،
ولا يتطلع إلى ما بين أيدي المتـنفذين حتى لا يستثيرهم
فيحقدوا عليه ،
ولا ينسى حُرُمَ القصر وخدمه من التحف والهدايا ،
حتى
أجمعت النفوس على حبه ،
والتقت القلوب على مودته ، وما تلبث ـ رغم
كل هذا ـ رؤؤس الفتنة أن تتطاول من حوله , لتكيد له ؛
فقد كان عربي
الأصل قحطاني النسب، جاء جده الأكبر في جيش الفتح مع (طارق بن
زياد ) وكانت الدولة آنذاك مقسمة في النفوذ بين الصقالبة ، والموالي ،
وأبناء المصحفيين ـ وهم أسرة كبيرة سيطرت على الدولة وتَحَكَّمَ رجالُها
في سياستها ـ ولم يكن العرب الفاتحون يملكون من الحكم شيئاً ، بل
كانوا يعيشون على هامش الحياة السياسية والاجتماعية بلا نفوذ يذكر ،
ومن هنا بدأ الكيد لهذا الفتى العربي حتى لا يُعيد الدولة إلى أيدي
العرب .
وقابل ابن أبي عامر الكيد بكيد مثله ،
فضرب الصقالبة
بالمصحفي ، ثم ضرب المصحفي بالموالي، مستعيناً في ذلك بجمع من
البربر وثلة كبيرة من العرب رأت فيه المنقذ المخلص ، ورأى فيهم العون
والسند ، ولم يبق أمامه إلا (غالب) قائد الجيوش وفارس الأندلس ،
فتزوج ابنته (أسماء) ، ليضمن ولاء والدها ، واجتمع له بذلك الأمر كله ،
فتفرغ للجبهة الخارجية بعد أن وحد الجبهة الداخلية ، وولى وج شطر
الجيش فاهتم به غاية الاهتمام ، وجعله خليطاً قوياً من العرب والبربر
ونصارى الأندلس الذين أسلموا ،
وأصلى الإسبان ناراً حامية من غزواته
التي تعدت الخمسين غزوة ، والتي لم يهزم في واحدة منها .
وكان من
شدة بأسه لا يفك حصاراً عن مدينة حتى تستسلم له مهما طال أمد
الحصار، وربما بنى مدينة للمصابرة أمام المدينة المحاصرة حتى ييأس
أعداؤه من رحيله.
رُوِيَ عنه في إحدى غزواته أنه توغل في بلاد الإسبان ففرحوا بتوغله
وكمنوا له وحفروا خندقا يمنعه من العودة ، فلما رأى الخندق علم أنهم
أرادوا حصاره والإجهاز عليه فعاد إليهم وقاتلهم أشد قتال وكان يرمي
بجثث قتلاهم في الخندق الذي حفروه ثم أرسل لهم رسالة يقول فيها :
إنني كنت أتكلف مؤونة المجيئ إليكم صيفاً وشتاءً ، أما الآن فأنا بجانبكم
أحاربكم ولا أتكلف شيئا. فأسقط في يد الإسبان وطلبوا منه الصلح
فاشترط عليهم ردم الخندق بما تبقى من جثث محاربيهم ، وأن يحملوا له
الغنائم والأسلاب إلى قرطبة دون أن يتحمل في حملها درهما واحدا....
وقد كان .
هذا هو الفتى الضائع بالأمس والملك المنصور اليوم ، بلغ الغاية في
حكمه ، فلم يدع عملاً يرفع شأن الدولة إلا عَمِلَه ؛ فاهتم بالآداب والفنون
والعلوم والعمارة والتشييد والجيش وجعل من الأندلس نبراس الحضارة
في أوروبا . ولو استقرأنا عظمته من تاريخه لطال بنا البحث وخرجنا عن
مقصود المقال ، وقد صدق فيه من كتب على قبره:
آثـاره تنـبـيك عـن أخبـاره حتـى كـأنـك بالعيـان تـراه
تالله ما مـلك الجزيـرة مثـله حـقاً ولا قاد الجيـوش سـواه
ولكن ماذا فعل محمد بن أبي عامر حتى وصل إلى ما وصل إليه ؟؟
لقد تحرر من العلائق التي تشده إلى الأرض ، ونفض عن نفسه غبار الكسل ،
وصمم على أن يكون شيئا مذكوراً ، فَخَلَّف وراء ظهره تلك القناعات المحبطة
التي كانت تملأ رأسه وتثبط همته : لا أعرف ، لا أستطيع ، لا أملك ، لست أهلاً ، كيف السبيل .
لقد تخلص من كل عائق كان يعوقه عن العمل والسعي . ترك أصحابه الذين أَلِفَ معهم الفشل ،
وأقلع عن التسكع في شوارع المدينة والجلوس على مقاهيها وحاناتها ،
وغيَّر بيئة التواني التي كان يعيش فيها ، ثم بدأ بالتعلم ليطور أدواته
ومواهبه ، مستغلاً هذه المواهب فيما ينفعه ، واستقبل الضربات تلو
الضربات بجنان ثابت وعقل راجح ، فما أوهنه اليأس ولا أحبطته العوائق ،
مع تربص بالفرص المتباعدة ، وتحيُّنٍ للمكاسب المتصاعدة ، حتى إذا تَمَّ
أداؤه واكتمل بناؤه ، وقف صلب العود يحرس ما بَنى ويجدد ما أدََّى ،
ليبلغ في سنوات قليلة ذروة المجد وقمة الفخار .
فلا تكن منهزما .. أو محبطا .. بل إنطلق بقدراتك نحو القمم
منقوووول